غزوة أحد

غزوة أحد، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة فى شهر شوال، فيها من الدروس والعبر الكثير فتبرز لنا أهمية الطاعة، وخطورة مخالفة الأوامر، فضلًا عن كونها سجلًا حافلًا بتضحيات الصحابة الكرام الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لم تكن هذه الغزوة مجرد رد فعل على هزيمة قريش في بدر، بل كانت تعبيرًا عن صراع أعمق بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر،وأختبار للإيمان وأظهار للمنافقين تاركةً وراءها دروسًا وعبرًا مستمرة الأثر حتى يومنا هذا.
الجذور العميقة للغزوة: أسباب تتجاوز الثأر
على الرغم من أن الانتقام لهزيمة بدر كان الدافع المباشر لقريش لخوض غزوة أحد، إلا أن هناك أسبابًا أعمق وأكثر شمولية دفعت قادة مكة إلى حشد جيشهم والتوجه نحو المدينة المنورة. فبعد الانتصار الساحق الذي حققه المسلمون في بدر، اهتزت مكانة قريش وهيبتها بين القبائل العربية. فقد تجرأ قلة قليلة من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم على إلحاق هزيمة نكراء بأشراف مكة وقادتها، مما أثار مخاوف قريش من تنامي قوة المسلمين وتأثيرهم المتزايد على ميزان القوى في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، كانت قريش تنظر إلى الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة كتهديد حقيقي لمصالحها الاقتصادية والتجارية. فقد بدأت طرق التجارة التي تربط مكة بالشام تتعرض لغارات المسلمين، مما ألحق ضررًا كبيرًا بالتجارة القرشية التي كانت عماد اقتصاد مكة. لذا، رأت قريش في القضاء على قوة المسلمين في المدينة ضرورة حتمية للحفاظ على نفوذها ومصالحها.
لم يكن دافع قريش ماديًا وسياسيًا فحسب، بل كان هناك أيضًا جانب عقائدي. فقد كان زعماء قريش يتمسكون بشدة بعادات وتقاليد آبائهم ورافضين للدعوة الإسلامية الجديدة التي تهدد أسس مجتمعهم الوثني. كانوا يرون في انتشار الإسلام خطرًا على آلهتهم وموروثهم الديني، وبالتالي كانوا مصممين على إخماد هذه الدعوة بكل الوسائل الممكنة.
أستعدادات قريش: حشد للقوة وأستنفار للقبائل
لم تدخر قريش وسعًا في حشد قوة ضاربة للانتقام من المسلمين. قاد الجيش القرشي أبو سفيان بن حرب، الذي كان يتمتع بحنكة سياسية وعسكرية. ضم الجيش ثلاثة آلاف مقاتل مدججين بالسلاح، من بينهم نخبة من فرسان قريش بلغ عددهم سبعمائة فارس، يقودهم القائدان البارزان خالد بن الوليد على الميمنه وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة.
حرصت قريش على اصطحاب النساء مع الجيش، ليس فقط لمرافقة المقاتلين، بل لتحفيزهم على القتال بشراسة ومنعهم من الفرار أمام المسلمين. كانت النساء يتقدمن الصفوف الخلفية، يذكرن المقاتلين بقتلاهم في بدر ويحثونهم على الثأر والانتقام. كما حملت قريش معها كميات كبيرة من الأموال والعتاد لتغطية نفقات الجيش وضمان استمرار القتال لأطول فترة ممكنة.
كانت معنويات الجيش القرشي مرتفعة، تغذيها الرغبة العارمة في الثأر واستعادة الكرامة المهدورة في بدر. كما أن تفوقهم العددي على المسلمين بثلاثة أضعاف عزز من ثقتهم بالنصر.
أستعدادات المسلمين
عندما وصلت الأنباء إلى المدينة المنورة بتحرك جيش قريش، اجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه للتشاور في الأمر هل يبقون فى المدينة للدفاع عنها والتحصن بها وكان هذا رأى النبى أم يخرجون لملاقات المشركين خارج المدينة. انقسم الصحابة إلى رأيين: رأى بعضهم الخروج من المدينة وملاقاة العدو في أرض المعركة، تعبيرًا عن رغبتهم في الجهاد فى سبيل الله وكان فيهم من فاته المشاركة فى معركة بدر . بينما رأى بعض الصحابة، البقاء في المدينة والتحصن بها، مستفيدين من أسوارها وحصونها في صد هجوم قريش ، ووافق هذا الرأى رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبس ملابس الحرب ، عندها عاتب الصحابة بعضهم بعضاً لأنهم قد يكونو أكرهو النبى على هذا الأختيار
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وأذن فى الناس بالخروج إلى العدو ، أن يرجع حتى يقاتل”.
خرج جيش المسلمون للقاء جيش قريش. كان عدد الجيش الإسلامي الف فى البداية ولكن المنافقين أنخذلو وأنسحبو من الجيش وكانو ثلاث مائة ,أصبح جيش المسلمين حوالي سبعمائة مقاتل .
قام النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيم صفوف المسلمين واختار مواقع استراتيجية للمعركة. أمر بخمسين رامياً ماهرًا بقيادة عبد الله بن جبير بالتمركز على جبل صغير يقع في الجهة الجنوبية من الجيش (جبل الرماة)، وأوصاهم وصية مشددة بعدم ترك مواقعهم تحت أي ظرف من الظروف، سواء رأوا النصر للمسلمين أو الهزيمة، وذلك لحماية ظهر الجيش من أي التفاف محتمل من قبل قريش. كان هذا التوجيه النبوي الحكيم يهدف إلى تأمين المسلمين وضمان عدم التفاف جيش الكفار من خلفهم .
أحداث المعركة
التقى الجيشان عند جبل أحد. كان النصر في المراحل الأولى حليفًا للمسلمين. فقد صمد المسلمون بثبات أمام الهجوم القرشي، وتمكنوا من إلحاق خسائر فادحة بصفوفهم، حتى أنهم فرو وتركو أمتعتهم
خطأ الرماة وتداعياته
كان لوحدة الرماة التي تمركزت على جبل أحد دور كبير في تحقيق التفوق الأولي للمسلمين. فقد أمطروا خيالة قريش بوابل من السهام كلما حاولوا الالتفاف حول الجيش الإسلامي، مما أفشل محاولاتهم المتكررة. ولكن عندما رأى الرماة انكشاف صفوف قريش وبدأوا في التراجع، ظنوا أن المعركة قد انتهت وأن الغنائم أصبحت في متناول أيديهم.
هنا وقع الخطأ الفادح الذي قلب موازين المعركة. فقد خالف أغلب الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضح والمشدد، ونزلوا من مواقعهم مسرعين لجمع الغنائم، متجاهلين تحذيرات قائدهم عبد الله بن جبير والقلة القليلة التي ثبتت معه على الجبل.
أستغل خالد بن الوليد، الذي كان يتمتع بفطنة عسكرية، هذا الفراغ الذي أحدثه نزول الرماة. فالتف بفرسانه من خلف الجبل وشن هجومًا مفاجئًا على الجيش الإسلامي من خلفهم . أدى هذا الهجوم المباغت إلى ارتباك كبير في صفوف المسلمين الذين فوجئوا بالهجوم من الخلف بعد أن كانوا منتصرين.
إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم: أختبار للإيمان
في خضم المعركة واشتداد وطيس القتال، أصيب النبى صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وسرت إشاعة بين المسلمين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل. كان لهذه الإشاعة وقع الصاعقة على قلوب المسلمين، حيث أصابهم اليأس والفتور في العزائم ، فاهتزت صفوفهم وزاد اضطرابهم. ولكن منهم من قويت عزيمته مثل أنس بن النضر الذى قال لهم قومو فموتو على مامات عليه نبيكم
ولكن سرعان ما تدارك بعض الصحابة حقيقة الأمر، وثبتوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يزال يقاتل ببسالة في قلب المعركة. كانت هذه الإشاعة بمثابة اختبار حقيقي لإيمان المسلمين وولائهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم.
صور من تضحيات أبطال المسلمين
سطرت غزوة أحد أروع الأمثلة في التضحية والفداء التي قدمها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعًا عن نبيهم ودينهم. من بين هؤلاء الأبطال:
- حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: عم النبي صلى الله عليه وسلم و”أسد الله وأسد رسوله”، قاتل بشجاعة وبسالة منقطعة النظير في صفوف المسلمين، حتى استشهد على يد وحشي بن حرب والذى أسلم لاحقاً.
- مصعب بن عمير رضي الله عنه: حامل لواء المسلمين في المعركة، قاتل بشراسة وهو يدافع عن الراية حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت شماله، فاحتضن الراية بصدره حتى سقط شهيدًا .
- سعد بن الربيع رضي الله عنه: عندما فقد النبي صلى الله عليه وسلم سعدًا في المعركة،أمر أن يبحثو عنه تطوع رجل من الأنصار للبحث عنه فوجده جريحًا وبه رمق. أوصى سعد الرجل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم سلامه وأن يقول له.
روى ابن إسحاق: «قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم : من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر، فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سلامي! وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلِص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف».
- المرأة الأنصارية التي استشهد أبوها وأخوها وزوجها في المعركة: عندما تلقت هذه المرأة الصابرة خبر استشهاد أحبائها الثلاثة، لم تجزع ، بل سألت أولًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأته سالمًا قالت بلسان المؤمن الراضي بقضاء الله: “كل مصيبة بعدك جلل” (أي صغيرة وهينة).
- موقف أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها: كانت أم عمارة من أوائل النساء اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي غزوة أحد، خرجت في البداية لسقاية الجرحى وإسعاف المصابين من المسلمين. ولكن عندما اشتد القتال ورأت المسلمين يتراجعون وبعضهم يفر، لم تتردد أم عمارة في حمل السيف والقوس والتقدم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفاع عنه بنفسها.
روى الصحابة مشاهد بطولية لأم عمارة وهي تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقاتل المشركين ببسالة وشجاعة فائقة. كانت تضرب بسيفها يمينًا وشمالًا وتحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم من سهام ورماح الأعداء ، وقد أصيبت أم عمارة في هذه المعركة بجروح عديدة، ولكنها ظلت صامدة ومحتسبة، ولم تتوانَ عن الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهاية المعركة. لقد كان موقفها مثالًا نادرًا لشجاعة المرأة المسلمة وإيمانها العميق.
- موقف عمرو بن الجموح الأنصاري رضي الله عنه: كان عمرو بن الجموح شيخًا كبيرًا به عرج، وكان له أربعة بنين شباب يخرجون للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. عندما أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أحد، أراد عمرو بن الجموح أن يخرج للجهاد أيضًا، ولكن بنيه حاولوا منعه لعذره وكبر سنه. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: “يا رسول الله، إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك للجهاد، ووالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة”.
رقّ قلب النبي صلى الله عليه وسلم لحماسة هذا الشيخ المؤمن، وقال له: “أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك”. ولكن عمرو بن الجموح أصر على الخروج، وقال: “يا رسول الله، دعني أخرج أقاتل في سبيل الله”. فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم. وعندما خرج عمرو بن الجموح إلى المعركة، قاتل قتالًا شديدًا حتى استشهد وهو يتمنى الشهادة ولقاء الله. لقد كان موقفه تجسيدًا للإيمان الصادق الذي يتجاوز الأعذار والعوائق في سبيل نصرة الدين.
- موقف أنس بن النضر الأنصاري رضي الله عنه: لم يشهد أنس بن النضر غزوة بدر، فشق عليه ذلك كثيرًا وقال: “يا رسول الله، غبت عن أول قتال لك مع المشركين، لئن أشهدني الله قتالًا آخر ليرين الله ما أصنع”. فلما كان يوم أحد، قاتل أنس بن النضر قتالًا شديدًا وأبلى بلاءً حسنًا.
في خضم المعركة، وبينما كان بعض المسلمين في حالة من الضعف واليأس بعد سماعهم إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، مر أنس بن النضر على نفر من الصحابة وهم قعود، فقال: “ما يجلسكم؟” قالوا: “قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم”. فقال أنس: “فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه”. ثم انطلق بسيفه وقاتل حتى استشهد، ولم يعرفه أحد إلا بأصبعه، فقد وجدوا في جسده بضعًا وثمانين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم. لقد كان موقف أنس بن النضر دليلًا على قوة إيمانه وتسليمه لقضاء الله، وعلى استعداده للتضحية بالنفس في سبيل الله ورسوله. وقد نزلت فيه وفي أمثاله من المؤمنين الصادقين قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
هذه المواقف البطولية وغيرها الكثير التي شهدتها غزوة أحد تبرز مدى إيمان الصحابة الكرام وتفانيهم وشجاعتهم، وتقدم لنا دروسًا عظيمة في الثبات على الحق والتضحية في سبيل الله. لقد كانوا بحق خير جيل حمل راية الإسلام ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه مجرد أمثلة قليلة من التضحيات العظيمة التي قدمها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، والتي تجسد مدى إيمانهم وتفانيهم في سبيل الله ورسوله.
نهاية الغزوة: دروس وعبر مستمرة
بعد قتال مرير وتضحيات عظيمة، تراجع المشركون ولم يتمكنوا من تحقيق نصر حاسم أو القضاء على المسلمين. كانت خسائر المسلمين في هذه الغزوة سبعين شهيدًا من خيرة الصحابة، بينما قُتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا.
لم تكن غزوة أحد نصرًا ساحقًا للمسلمين، ولكنها لم تكن هزيمة كاملة أيضًا. لقد كانت بمثابة درس مهم للمسلمين، أكدت على أهمية الطاعة المطلقة لأوامر القيادة وعدم مخالفة التعليمات مهما بدت الأسباب منطقية في ظاهرها. كما كشفت الغزوة عن خطورة الطمع والانشغال بالدنيا في أوقات الشدة. كما كشفت المنافقون .
في المقابل، أظهرت غزوة أحد المعدن النفيس للصحابة الكرام الذين ثبتوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف ودافعوا عنه بأرواحهم، وقدموا أروع صور التضحية والفداء التي ستظل نبراسًا للأجيال القادمة.
لقد تركت غزوة أحد بصمات واضحة في مسيرة الدعوة الإسلامية، وأصبحت مرجعًا هامًا في فهم طبيعة الصراع بين الحق والباطل، وفي استخلاص الدروس والعبر التي تضيء لنا طريقنا في مواجهة التحديات والفتن. إنها تذكير دائم بأهمية الوحدة، والطاعة، والتضحية في سبيل الله.
أقرأ أيضاً :سلمان الفارسى : رحلة البحث عن الحق
أفرأ أيضاً : غزوة مؤتة